(قشعريره)
أدير مفتاح السياره وأنطلق، مثل صاروخ مندفع عبر الفضاء فقد إحداثيات التوجيه. مسرعاً عبر طريق خال، بينما أضواء المصابيح الصفراء تحيك على جانبى الدرب الممتد زركشة صفراء باهته على رداء رمادى مغبر بالاتربه. وفى سكون السماء وصمت المقاعد الخاليه كانت ضربات الهواء لزجاج النافذه بجوارى تتخذ وقعاً إنسانياً مخيفاً جعل بدنى يقشعر..ببطء، ولكن بثبات، أخرج من بين معالم المدينه الكبيره الناعسه، المرهقه من نهار كامل مشحون بالعرق والزحام والانتصارات والهزائم.
عندما أعود بذاكرتي إلى الوراء خمسة عشر عاماً، أندهش من ذلك القرار الذى إتخذته، بأن أترك مدينتى الصغيره المسالمه إلى صخب العاصمه المجنون، غارقاً بين رزم الأوراق البنكيه، والمعاملات التجاريه. الدائن والمدين، الصادر والوارد، وتشابكات عقود البيع والشراء، والأنسان الذى من لحم ودم يغدو إذ يتقيد بها، إنساناً من ورق..
خمسة عشر عاماً لم أره، ولم أعرف أخباره، وصدقاً أقول أننى ربما نسيت ملامحه، ولأننى لم أتزوج بعد، فقد نسيت ما بقى من سراب علاقة الأب بإبنه، ولكن كان يبقى دائماً، فى مكان ما بالعقل الباطن، متكوراً على ذاته، يشع أحساساً مبهماً هو الأمان، البيت، هو لمحة خاطفه بالمرقاب لأبراج الوطن، هو النوارس التى تحلق فوق المرافىء، هو أبى. وهو قد مات الآن فلم أحزن، ولم يتحرك في نفسى ساكن، طارت النوارس فى الفضاء البعيد، وتهدم السكن، وتهاوت أبراج الوطن..
هل أصبح قلبى جامداً إلى هذه الدرجه، هل أنا ملبد المشاعر إلى هذا الحد؟..
أشعر أننى أريد أن أمسك بتلابيب ذاتى وأهزها بعنف لكى أوقظها من سباتها العميق صارخاً: لقد مات أباك أيها الأحمق..
***
المدينه الصغيره الناعسه. الجدران ترمقنى بفضول، لقد رأت وجهى من قبل ولكنها لا تذكر أين؟..
ربما فى ذهابى وإيابى منذ أكثر من عشرون عاماً إلى المدرسة، أو فى مراحى بين الشوارع الصغيره مع الأصدقاء،ربما فى مغامراتى العاطفيه، فى يد الطفل الصغير وهى تخط بالطبشور..
شوارع ضيقه، شوارع مظلمه..
شوارع ضيقه، شوارع مظلمه..
فى النهايه أخرج بسياراتى على الطريق الترابى الغير ممهد، متجهاً إلى قريتنا!..
لقد تركت أبى خمسة عشر عاماً، وحيداً، فكادت الوحدة تودى بعقله، لذا باع بيتنا القديم وذهب إلى قريتنا وهناك قام ببناء منزلاً يعيش فيه وسط أصدقائه القدامى، وقد نسى أنه فى يوم من الأيام قد كان له إبناً، وهى قساوة لا تقل فى شىء عن موقفى تجاهه..
أقطع الطريق الترابى المظلم بحذر، لا أريد أن تسقط سيارتى الرياضيه الأنيقه فى ترعة المياه الآسنه تلك..
أشجار..
أشجار..
فجأة إنقطع خط الأشجار، وأنفجر عن يمينى وعن يسارى أفق شاسع من الحقول والمراعى، شعرت بالأمتنان للحياة، وفكرت فى أن الفرصة لم تزل فى يدى، يمكننى أن أتسلق الإفرست، سوف تكون هناك تمارين طويله، فحوصات طبيه، تنقلات، فنادق، يمكننى أن أسير على الإفريز، ممسكاً بيدى مظلة سوداء وأنا ألعن الطقس، سوف تكون هناك أهداف فاصله، ومخططات للحياة والحب. أقفز بمظله من طائرة، أهبط وأنا فى غواصة إلى قاع ماريان، يمكننى أن أذهب إلى الفضاء الخارجى حيث أسبح فى الفراغ. يمكننى أن أعبر المانش سباحة، أو أجتاز المحيط الأطلسى على قطعة من الخشب، أمتطى جمال الصحارى، وأمرح مع بطاريق القطب الجنوبى.. فأنا لا أزال حياً!
نبهنى من أحلامى الشامته صوت القرآن يرتفع فى الأفق، ليذكرنى بأن من مات هو أبى، وبدت القريه من بعيد تسبح فى ظلام مموه بنثار آشعة ضوء ضعيفه، خليط من ضوء القمر ووهج المصابيح المتناثره هنا وهناك بغير نظام، وبهت قلبى من الموقف، قريتى الخاليه، أبى الذى مات، والقرآن يتلى على روحه، شعرت ببعض الأسى، والأسى شعور غريب لا يرقى إلى الحزن ولا تطوله رفاهية الكآبة. إلا أن مشاعرى لم تكن تتناسب والموقف على الأطلاق، ولا أعرف لهذا سبباً..
أقطع الطريق الرئيسى فى القرية، ترمقنى الكلاب فى فضول، أخرج على الطريق الزراعى من الجهة الأخرى، أقطع عدة أمتار على الطريق الزراعى خارج القرية، ثم أتوقف بالسيارة على جانب الطريق، أهبط ساخطاً من فكرة أن أقطع مسافة طويلة بداخل الحقول حتى أصل إلى منزل أبى الذى إبتناه فى قلب أطيانه، يبدو أن العجوز قد جن فى آخر أيامه ليسكن فى ذلك المنفى المخيف..
برد قارص يصفع وجهى، والظلام ينتشر من حولى، لولا حبال النور المعلقه على ذاك المنزل هناك لما تعرفت مكانه حتى إشعاع الفجر الأول، على كل حال هو مات ولن أمكث هنا كثيراً، إن هى إلا أيام الحداد، ثم أبيع المنزل والأرض وكل شىء.
تقدمت بممر ضيق وسط حقل الذرى الشاسع، نقيق الضفادع، والظلام، الطريق طويل ولكنه بدأ ينهزم تحت خطواتى الواثقه، بدأت عيني تعتاد الظلام، ولكن وجهى لم يعتد بعد هبات الهواء البارده..
وصلت إلى المنزل، وأستقبلنى الجمع القليل من الأصدقاء الذين ظلوا ساهرين بإنتظارى، بنظرات ملؤها الدهشه والأستنكار، خمسة عشر عاماً قد تفعل بالوجه الأفاعيل، فقط تبقى على الخطوط العريض للملامح، أجلس، أسلم، أحتضن، أرسم على وجهى الحزن على مضض، أجلس، أقف، أتقبل العزاء الحار، وفى النهاية لم يبقى فى المنزل غيرى، والسيد (عبد الواحد) المحامى صديق والدى..
جلسنا معاً، صامتين مطرقين لا يقطع الصمت سوى صوت أنفاسنا اللاهثه، كان يمقتنى، أعرف هذا وأشعر به يسرى فى الهواء، سألته كى أقطع حدة الصمت وأذيب بعض الجليد، عن ظروف وفاة والدى، فقال:
- لم يمت ولكن قتل.. الأوغاد يقولون أنه إنتحر ولكنه قتل.. لم يعرف الجانى وإنتهى الأمر..لقد جئت مع الشرطة ورأيت حال المنزل بعينى.. حالة فظيعه من الفوضى، كل شىء مبعثر هنا وهناك، الحق أقول لك، لقد شعرت بأن هناك من مزق أشلاء المنزل، حقيقة لا مجاز، لقد شعرت بألم الجدران، كل شىء ما بين ممزق ومحطم. كل شىء سوى المعمل، معمل والدك فى القبو هو الذى نجا، وغرفته فى الطابق الثانى، فيما عدا هذا فإن كل شىء ممزق، لا نعرف أي هول حدث فى تلك الليله، ومن الأفضل ألا نعرف..
كنت قد عرفت أغلب تلك التفاصيل من قبل، فسألته السؤال الذى ألح علي مذ سمعت الخبر..
- وجثة والدى؟..
إنقبضت عضلات وجهه ألماً وتقززاً وهو يقول:
- لقد كانت ممزقه إلى ثلاثة أجزاء.. العجيب أنها كانت ممزقه بعناية غريبة، وكأن من مزقها طباخ ماهر.. على كل حال أتمنى أن تنال روحه السلام الذى لطالما بحث عنه..
ثم أكمل وهو ينهض دون أن ينظر فى وجهى:
- حمداً لله على سلامتك..
ثم كمن تذكر أمر مفاجىء:
- لقد أراد والدك أن يعطى لك هذا الخطاب..
ومن جيب بذلته أخرج خطاباً وناولنى إياه، ثم غادر المنزل، وتوقف قليلاً وكأنما تذكر أمراً آخر:
- قد تضطر أن تبيت فى غرفة والدك.. فهى الغرفة الوحيده الصالحه للمبيت الليله..
شكرته على كل حال، وبدلت ملابسى، ثم صعدت إلى غرفة والدى بالطابق الثانى لأنال قسطاً من الراحه..
جلست على مقعد هزاز في ركن الغرفه، وفتحت الخطاب الذى أعطانيه المحامى، كان خطاباً موجزاً:
(( ولدي العزيز،
إن كنت تقرأ خطابى هذا فأنا قد توفيت، إنتقلت إلى العالم الآخر، هذا العالم الذى طالما شغل تفكيرى..
حين تكون وحيداً، دون أن يسأل عنك إبنك ولو بسماعة الهاتف طيلة خمسة عشر عاماً سوف تجد الوقت الكافى لممارسة العلم فى المختبر، وقت كافى أكثر من اللازم فى الحقيقه، لقد كنت أمضى يومى ما بين غرفتى والمختبر، إنه أسفل المنزل وقد تحب أن تلقى نظرة عليه، على كل حال، إستغرقنى العلم، والبحث المعملى، ومرت خمسة عشر عاماً لم أشعر بها، لقد كنت أسعى فى الظلام، وحيداً من أجل التوصل إلى كشف قد يقلب مستقبل العلم رأساً على عقب، كشف سوف يتخذ مكانه بين قوانين الجاذبيه والنسبيه، لقد توصلت إلى الجهاز الذى سعيت فى صنعه خمسة عشر عاماً، ولكنى نسيت النصيحه الهامه، حين تكون رجلاً وحيداً مدة خمسة عشر عاماً لا يشغلك شاغل، فلا تمارس الفيزياء وعلوم الباراسيكولوجى، لأنك فى النهاية سوف تتوصل لأشياء لا يجب أن يتوصل لها رجل وحيد ضعيف فى منزل ناء مثل منزلى..
لقد توصلت إلى آشعة بإمكانها أن تجعل الإنسان يرى ويسمع العالم الآخر، عالم الأرواح..
رباه.. آه لو يرى العالم ما رأيت..
آه لو يعرفوا ما عرفت..
لن تصدق كمية الأشياء التى تزحف فى الأبعاد من حولنا..
لن تصدق ماهية تلك الأشياء وما يمكن أن تفعل..
أنا أعبث معها كثيراً.. وأعرف أنها قد تؤذينى.. أعرف أنها يوما ما قد تمزقنى إلى أشلاء.. أعرف كل هذا..
ولكن عزائى الوحيد إن حدث وآذتنى تلك الأشياء.. هو أنت.
لقد راهنت على أنك سوف تأتى إلى منزلى عندما تسمع بخبر وفاتى..
كنت أعلم أن المحامى سوف يعطيك الخطاب..
وقد راهنت على أنك سوف تجلس على المقعد الهزاز المفضل لدى..
والآن وأنت تجلس تقرأ الخطاب، هناك آشعة مسلطة إلى مخك مباشرة..
نعم، الآشعة التى إكتشفتها..
لو أزحت الستار الذى أمامك لوجدت الجهاز الذى يضخ تلك الآشعه..
والآن.. سوف أمر عليك فى الثانية عشر ليلاً..
سوف ترانى وتسمعنى بالتأكيد..
ولسوف نقضى وقتاً جميلاً معاً.))
إنتهيت من قرآة الخطاب وأنا لا أصدق ما قرأت.. نظرت إلى الساعة فوجدتها تشير إلى الثانية عشر.. ومع دقات الساعة دوت طرقات على الباب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق